mardi 25 décembre 2012

من مناهل الأدب : «البيان والتبيين» لؤلوة الجاحظ


د.محمد حسان الطيان
منسق مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة
عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق

البيان والتبيين للجاحظ أحد الموارد التي يستقى منها الأدب، وتكتسب بها الفصاحة، وترتقي بها اللغة، فكم استقامت به ألسنة.. وكم استوت به ملكات، وكم ارتقت عليه أذواق
ولا غرو، فهو أحد دواوين الأدب التي ذكرها ابن خلدون في كلمته المشهورة: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها
والحق أن هذا الكتاب يجمع أفانين الأدب المختلفة، فتجد ما شئت من شعر جميل، ونثر بديع، وخطب فصيحة، وأمثال سائرة، وحكم بليغة، تتوجها آيات بينات من الكتاب العزيز، وأحاديث نضرة من كلام سيد الفصحاء  " صلى الله عليه وسلم
ويسوق كل ذلك بأسلوبه الأخّاذ سيد من سادات البيان في تاريخنا الأدبي المشرق هو الجاحظ، وناهيك به أميرًا من أمراء البيان، وفارسًا من فرسان الفصاحة والبلاغة والأدب
ويكفي في التدليل على أهمية الكتاب وقيمته ومكانته أن أورد بعض ما قيل فيه، وأن أقتبس نصوصًا منه
قالوا في البيان والتبيين
1- قال المسعودي في مروج الذهب: وكتب الجاحظ- مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحْسَنَ نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجْزَلَ لفظ، وكان إذا تخوَّفَ مَلَلَ القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة، وله كتب حسان منها: كتاب البيان والتبيين، وهو أشرفها، لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وغُرَر الأشعار، ومستحسن الأخبار، وبليغ الخطب، ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى به
2- وقال الصفدي في نصرة الثائر على المثل السائر
وحسبك بكلام يثني عليه أبوعثمان عمرو الجاحظ، وهو من أحذق أئمة الأدب، وأعرفهم بما يقول، وأبصرهم بمدارك العقول، وقوله في مثل هذا حجة، وما قرره في الأبيات هو المحجة
وما أحسن قول القاضي الفاضل: وأما الجاحظ- رحمه الله- فما منا معاشر الكتاب إلا من دخل من كتبه الحارة، وشن الغارة، وخرج وعلى الكتف منها كارة
وقد أولع الفاضل رحمه الله بذكره في ترسله، وذكر تصانيفه، ولو لم يكن له في كتب الأدب إلا كتاب البيان والتبيين لكفاه ذلك فخرًا
ويقال: مما فضل الله به أمة محمد  " صلى الله عليه وسلم"  على غيرها من الأمم، عمر بن الخطاب  "رضي الله عنه"   بسياسته، والحسن البصري بعلمه، والجاحظ ببيانه
3- وقال الطناحي في مقاله أجمل كتاب في حياتي البيان والتبيين للجاحظ: ويبرز من بين مؤلفات الجاحظ كتابه البيان والتبيين معلمًا ضخمًا من معالم كتب العربية، وبابًا واسعًا من أبواب الفكر العربي. ولهذا الكتاب في حياتي أثر ضخم، فهو الذي قادني إلى كتب الجاحظ الأخرى، فقرأتها كلمة كلمة، ولم أتعامل معها تعامل المراجع الخاطفة، ثم هو الذي جذبني إلى كتب العربية الأخرى، ومن قبل ذلك ومن بعده فهو الذي أذاقني حلاوة البيان العربي، وهو الذي هداني إلى هذه الأنغام الجليلة الفخمة المترقرقة من مختار الكلام: شعرًا موزونًا معقودًا بقواف محكمة، ونثرًا مصقولًا مسنونًا يتهادى بالحرف العربي مشرقًا وضيئًا متسقًا؛ لينصبَّ في السمع، ويتولَّج في القلب، فيحدث تلك النشوة الغامرة، ويُمتع بذلك الطرب المؤنس الودود

نصوص من البيان والتبيين
أ- مقدمة الكتاب
قال أبوعثمان عمرو بن بحر، رحمه الله:
اللهمّ إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلّف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السّلاطة والهذَر، كما نعوذ بك من العيّ والحَصَر.. وقديمًا ما تعوذوا بالله من شرهما وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما
ب- مقولات في التذوق والنقد
1- أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه
2- لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك
3- رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير الألفاظ.. والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه
ج – وصف رائع للبيان النبوي
وأنا ذاكرٌ بعد هذا فَنًّا آخرَ من كلامه  " صلى الله عليه وسلم
«وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى، قل يا محمد: {وما أنا مِنَ المتَكلِّفين} (ص: 86).
فكيف وقد عابَ التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصورَ في موضع القصر، وهَجَر الغريبَ الوحشيَّ، ورغِبَ عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطِقْ إلا عن مِيراثِ حكمَةٍ، ولم يتكلَّم إلا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق
وهو الكلامُ الذي ألقَى اللّه عليه المحبّةَ، وغشَّاهُ بالقَبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبَيْن حُسنِ الإفهام، وقلّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلّةِ حاجة السامع إلى معاوَدته
لم تسقط له كلمة، ولا زَلّت به قَدَم، ولا بارَتْ له حجَّة، ولم يَقُم له خَصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَبَ الطِّوال بالكلِم القِصار
ولا يَلتمِس إسكاتَ الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصِّدق ولا يطلب الفَلْج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل الموارَبة، ولا يهمِز ولا يَلْمِز، ولا يبطئ ولا يَعْجَل، ولا يُسْهِب ولا يَحْصَر
ثم لم يَسْمع الناسُ بكلامٍ قَطّ أعمَّ نفعًا، ولا أقصَدَ لفظًا، ولا أعدلَ وزنًا، ولا أجملَ مذهبًا، ولا أكرَم مطلبًا، ولا أحسنَ موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح معنًى، ولا أبين في فحوَى، من كلامه  " صلى الله عليه وسلم
د - فن التمثيل في زمن الجاحظ
ومع هذا إنّا نجِدُ الحاكية من الناس يَحكي ألفاظَ سُكان اليَمَن مع مَخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئًا، وكذلك تكون حكايتُه للخُرَاسانيّ والأهوازيّ والزِّنجي والسِّنديّ والأجناسِ وغيرِ ذلك، نعم حتَّى تجده كأنه أطْبَعُ منهم، فإذا ما حَكى كلامَ الفأفاء فكأنما قد جُمِعَتْ كلُّ طُرْفَةٍ في كل فأفاءِ في الأرض في لسانٍ واحد، وتجدُه يحكي الأعمى بصُوَرٍ ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه، لا تكاد تجد مِن ألْف أعْمَى واحدًا يجمع ذلك كلَّه، فكأنّه قد جَمَع جميعَ طُرَف حركاتِ العُميان في أعمَى واحد
ولقد كان أبو دَبُّوبة الزَّنجي، مولى آل زيادٍ، يقف بباب الكَرْخ بحضرةِ المُكَارين، فينهِقُ، فلا يبقى حمارٌ مريض ولا هَرم حسيرٌ، ولا مُتعَبٌ بهيرٌ إلا نَهَقَ، وقبل ذلك تسمع نَهيق الحِمار على الحقيقة، فلا تنبعث لذلك، ولا يتحرَّك منها متحرِّك حتَّى كانَ أبو دبُّوبة يحرّكه، وقد كان جَمَعَ جميعَ الصورِ التي تجمع نهيقَ الحمار فجعَلَها في نهيق واحد، وكذلك كان في نُباح الكلاب
ولذلك زعمت الأوائلُ أنّ الإنسانَ إنما قيل له: العالَمُ الصغيرُ سليلُ العالَم الكبير: لأنّه يصوِّر بيديه كلَّ صورة، ويحكي بفمه كل حكاية، ولأنّه يأكلُ النَّباتَ كما تأكل البهائم، ويأكل الحيوانَ كما تأكل السِّباع، وأنّ فيه من أخلاق جميعِ أجناس الحيوان أشكالًا

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire