lundi 28 janvier 2013

التبعية اللغوية.. وعقدة الإحساس بالدونية


التبعية انقياد للآخر، تتبعه حيثما توجه، دون تفكير في صحة ما يفعل أو خطئه.. 23_opt.jpeg   التابع تسيطر عليه فكرة أن الآخر لا يخطئ وأنه على صواب دائم.. فرق كبير بين التبعية والاقتداء، الأولى تخلو من التفكير، والثانية تقوم على الإعجاب بجوانب معينة في المقتدى به، إضافة إلى أن الاقتداء ينتج عنه كيان قوي، لأنه قائم على انتقاء جوانب القوة في الآخرين، أما التبعية فإنها تتسم بغياب التفكير النقدي، والإحساس بالدونية، وأن السبيل إلى الارتقاء لا يكون إلا بتقليد الآخر، دون التفات إلى الظروف البيئية والمجتمعية المختلفة، نتيجة ضعف الثقة في الذات، وعدم تكليفها بالبحث عن جوانب الإبداع الكامنة فيها.. المشكلة تتلخص في الانبهار والتقليد فحسب، ما يدفعنا إلى تضخيم الآخر وتقزيم الذات، ولو أننا منحنا أنفسنا الفرصة، وأعدنا اكتشاف ما يكمن فيها من ثروات معطلة، لأمكننا أن نكون إضافة جديدة ومهمة للعالم، لأن الأقوياء في زماننا بل في كل زمان لا ينظرون إلى المسخ المشوه الذي لا يمثل إلا صورة باهتة ضعيفة، وإنما ينجذبون نحو الأصل القوي الذي يبهر الأبصار، يظهر فيه إبداع الصانع النابع من ذاته، وفهمه للهدف الذي من أجله صنع ما صنع.
نحن في عالمنا العربي منبهرون بالغرب، نحاول تقليده بشتى السبل، في جميع المجالات، لا نسأل أنفسنا: ما الفائدة التي جنيناها من تقليده؟ هل صرنا من الأمم المتقدمة؟ هل أضفنا إلى المنجزات التقنية شيئًا جديدًا؟ هل قدمنا نظريات علمية جديدة؟ هل حققنا إنجازًا يستحق أن يلفت إلينا أنظار العالم؟
التبعية اللغوية أسوأ أنواع التبعية التي لحقت بنا في السنوات الأخيرة، نترك ما يجمعنا نحن العرب إلى ما لا ينتمي إلينا، وطننا اسمه «الوطن العربي»، المشترك فيه أن أهله يتحدثون اللغة العربية، إن سلبنا عنه هذه الصفة صرنا بلا هوية، يتمزق الكيان ويضيع التاريخ المشترك.. باللغة يفكر الإنسان وبها يتواصل، لو فقدنا اللغة فقدنا التواصل، وتناثرت حبات العقد دون أن تجد من يلملمها مرة أخرى.
للتبعية اللغوية في سنواتنا الأخيرة مظاهر واضحة للعيان، لكننا غافلون عن أخطارها، وأتناول أبرزها في النقاط التالية

 التعليم: ظهرت في البلاد العربية التي تعرضت للاستعمار مدارس للجاليات الأجنبية، يجري التدريس فيها بلغة كل جالية.. كان هذا الوضع في ذلك الوقت طبيعيًا
قاومت الشعوب العربية المحتلة محاولات الاستعمار عادت بلدان المغرب العربي إلى محاولة التدريس باللغة العربية، لكن في السنوات الأخيرة عمَّ في بلدان الوطن العربي-ما استعمر منها وما لم يستعمر- داء التدريس باللغة الأجنبية، سرى الداء بالتدريج في صورة مدارس اللغة التي بهرت الناس بالاعتناء بالتلاميذ واستخدام الوسائل الحديثة في توصيل المعلومات للطلاب   
صارت هذه المدارس وسيلة للتميز الطبقي، فمن يلتحق بها يحسب ضمن الطبقة المتميزة من المجتمع، وكلما زادت المصاريف الدراسية زاد التميز، أما من لم يلتحق بهذه المدارس فإنه يعد من طبقة أقل، يؤكد هذا الدكتور محمد بن أحمد الضبيب في كتابه «اللغة العربية في عصر العولمة»، مشيرًا إلى أن العرب العاملين في مجال التربية والتعليم لم ينظروا إلى «الآثار الخطيرة التي يسببها تعليم اللغة الأجنبية للصغار على انتماءاتهم الوطنية، فيكرس في نفوسهم الغضة التبعية للأجنبي والاستخفاف بكل ما هو عربي، وازدراء التراث العربي والتعلق بأنماط الثقافة الأجنبية الوافدة، وفي ذلك كله تعميق للهزيمة النفسية وتعويق عن النهوض، هذا إلى جانب أن كثيرًا من المدارس الخاصة التي انتهجت هذا النهج قد كونت نوعًا من الطبقية في المجتمع الواحد أدت إلى شروخ ثقافية في المجتمع وأسهمت في تفتيت وحدته». «مكتبة العبيكان، الرياض، 2001م، ص22»
لا يعني هذا نبذ اللغة الأجنبية في التعليم، وإنما وضعها في الموضع الصحيح الذي يتمثل في تعليم اللغة الأجنبية وليس التعليم بها، فالواقع أننا أحللنا اللغة الأجنبية محل لغتنا في تعليم العلوم التطبيقية، وتجري الآن محاولات لزحزحة اللغة العربية عن العلوم الإنسانية، كما يحدث في بعض الجامعات التي تخصص أقسامًا لتعليم التجارة والحقوق باللغة الإنجليزية، وهذه الأقسام تتطلب دفع مصاريف أعلى من الأقسام العربية، وينجذب الطلاب القادرون إليها، لأن الوسائل التعليمية فيها أفضل، بالإضافة إلى أن دفع المزيد من المصاريف يوحي بالتميز، وتتمثل خطورة الوضع في أنه مع مرور الأيام وتوالي الأجيال تصير اللغة العربية غريبة بين أهلها، ويصبح العرب غير قادرين على التواصل مع ثقافتهم العربية التي تكونت على مدار آلاف السنين، بهذا يصيرون بلا هوية، لن يكونوا عربًا، لأن الانتماء إلى العرب في الأساس انتماء إلى لغتهم، وفي الوقت ذاته لن يكونوا جزءًا من أصحاب اللغة التي أتقنوها، بل سيكونون - فقط- تابعين، وهذا ما حدث للدول الفرانكفونية، فهي ناطقة بالفرنسية، لكن لا يستطيع أحد أن يدعي أنهم فرنسيون
يؤكد الدكتور أحمد أبو زيد في كتابه «هوية الثقافة العربية» أن «اللغة ليست مجرد أصوات أو ألفاظ منطوقة أو كلمات مكتوبة، وإنما هي كيان متكامل من الفكر والوجدان والتراث والتاريخ والقيم الدينية والأخلاقية، كما أنها أداة اتصال وتواصل، ولذا فإن استبدال لغة أخرى بها فيه إهدار لكل هذه الأبعاد وانسلاخ المجتمع نفسه عن تاريخه وعن ماضيه وعن هويته الثقافية، كما قد يكون فيه إضعاف، بل وتضحية بعلاقاته الثقافية والفكرية مع الأقطار الأخرى التي تشترك معه في تلك اللغة، وفارق كبير جدًا بين أن يتعلم المرء اللغات الأجنبية لتكون وسيلة للتبادل الفكري مع الثقافات المختلفة، وبين أن يتبنى تلك اللغة لتكون هي أداته في التفكير والتعبير على حساب لغته الأصلية». (الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004م، ص385
من الغريب أن ينجرف العرب إلى التخلي عن لغتهم، بكل ما تحمله من تراث وتاريخ وثقافة، إضافة إلى ما تتميز به من ثراءٍ وسهولة.. كان من الواجب عليهم أن يطوروا لغتهم وينهضوا بها بدلًا من هدمها، يكفي أنها لغة حية تواصل بها أهلونا عبر القرون، وعنها نقل الأوروبيون الحضارة الإسلامية التي كانت سببًا قويًا في نهضتهم الحديثة.. اللغة العربية مليئة بوسائل الحياة والتطور، فهي لغة اشتقاقية، تسمح بتوليد الكلمات الجديدة، واستيعاب الكلمات من اللغات الأخرى في حالة الضرورة، إنها ليست لغة جامدة، لننظر ماذا فعلت إسرائيل، بعثت لغتها العبرية، وأحيتها من الموات، لتكون لغة للتخاطب ودراسة العلوم المختلفة، وإذا كانت العبرية استطاعت ذلك بعد مواتها، أفلا تستطيع العربية التعبير عن مصطلحات العلوم المختلفة؟ إننا نرتكب جرمًا كبيرًا إن تخلينا عن لغتنا العربية، لن يكون الجرم في حق أمتنا فحسب، وإنما سيكون في حق الإنسانية كلها، لأننا سنهدر جزءًا مهمًا من تاريخ الإنسانية

 الأماكن العامة
نلاحظ في دولنا العربية أنه عندما يتصل أحدنا بفندق أو شركة أو مستشفى، يأتينا صوت من يرد على المكالمة باللغة الأجنبية، ولا ينتقل إلى العربية إلا حينما يدرك أن المتصل عربي سواء كان من أبناء البلد أو من بلد عربي آخر.. هذا الوضع غير طبيعي، لأن المفترض أننا في بلد عربي، لغته العربية، لكن ما يحدث هو العكس، لأن هذه الأماكن تراعي الأجانب- سواء القادمين للعمل أو السياحة- أكثر من مراعاتها أبناء الوطن، وهذا لا يحدث في الدول الأخرى، لأنه يمثل تنازلًا عن مقوم من أهم مقومات الوطنية، وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد بن محمد الضبيب: «العيب فينا إن لم نتكلم اللغة الأجنبية، لا في الوافد الأجنبي الذي يفترض فيه أن يتعلم لغة البلاد التي يأتي إليها للعمل، كما يحدث في كل بلاد العالم، وهو أمر لا يحتاج إلى دليل فكل من قدر له السفر خارج المملكة «العربية السعودية» يدرك ذلك دون عناء كبير.. انظروا إلى العمال الأتراك في ألمانيا وهولندا، وإلى العمال المغاربة في فرنسا وإسبانيا، وإلى العمال المصريين في النمسا، وإلى أجناس العمال المختلفة في أميركا، هل يخاطبهم المواطنون في هذه الدول بلغة غير لغة البلاد الرسمية؟ بل هل يجرؤ أحد من هؤلاء الوافدين أن يخاطب المواطنين بغير لغتهم الرسمية؟» (ص56

لافتات الشوارع والمحلات
 تقع أعيننا في أي بلد عربي على لافتات الشوارع المكتوبة باللغة الأجنبية، وعن كتابة أسماء المحلات باللغة الأجنبية حدث ولا حرج، في محاولة من أصحابها لإضفاء الصبغة الأجنبية عليها، ظنًّا منهم بأن هذا يجعل العميل يشعر برقي المحل أو المتجر، فتجد اللافتة تحمل اسمًا أجنبيًا بحروف أجنبية مثل Baby Care أي رعاية الطفل، أو اسمًا أجنبيًا بحروف عربية مثل “جولدن فنجرز” أي الأصابع الذهبية، أو الأسهم العربي بحروف أجنبية، مثل كلمة «بدر» التي يكتبها البعض Badr ، ويحدث هذا رغم أن الأغلبية العظمى من العرب لا يتقنون اللغة الأجنبية

يرى الدكتور كمال بشر في كتابة «خاطرات مؤتلفات في اللغة والثقافة» أن ما يحدث له أسباب، من أهمها «عامل نفسي ينزع إلى سلوك قديم من تفضيل الأجنبي، بتصور تفوقه وامتيازه في سلوكه وإنتاجه وسلعه وأدواته، ومن ثم يلجأ رجال الأعمال والتجار وأضرابهم من الناس إلى إطلاق الأسماء الأجنبية على شركاتهم ومحلاتهم، وجذبًا للعامة وإغراءً لهم، أو قل تضليلًا وتمويهًا، وقد نسي هؤلاء وأولئك أن هذا الأسلوب يؤدي في النهاية إلى تعميق فكرة «الفوقية» لكل ما هو أجنبي، وفكرة «الدونية» لكل ما هو قومي، لا في مجال الأمور المادية والاستهلاكية وحدها، بل قد يمتد أثره إلى مجال الفكر والقيم والعادات». يضيف: «وقد انضم إلى هذا العامل النفسي الموروث، منذ سيطرة الجو الأجنبي التركي والإنجليزي، عامل آخر صنعناه بأنفسنا وأفسحنا نحن له الطريق ليستقر بيننا آمنًا مطمئنًا.. ذلك أن موجة «الانفتاح» الاقتصادي وما جرته أو واكبها من قوانين استثمار رأس المال الأجنبي قد أتاحت فرصة ذهبية وفتحت الباب على مصراعيه للشركات الأجنبية ذات الجنسيات المختلفة التي حملت معها لغاتها وأسماءها، الأمر الذي أغرى غير العارفين بالسير على دربهم واتباع سبيلهم بتسمية شركاتهم ومحلاتهم الوطنية والإعلان عنها بلغات أجنبية خالصة أو بكلمات أجنبية مسخت مسخًا بكتابتها بالحروف العربية، وقد فعلوا هذا إما لمجرد التقليد وإما بقصد الادعاء بأن بضائعهم ومنتجاتهم أو أعمالهم ومشاريعهم لا تقل في الجودة أو الامتياز والدقة عما أتى به هذا الوافد الغريب أو هي هي، إن لم تفقها أو تفضلها» «دار غريب، القاهرة، 19995م، ص178»
إبراهيم متولي - كاتب صحفي مصري

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire