قال الله تعالى في القرآن العظيم:
{يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له} (الحج: 73)، وقال
أيضًا: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ} (يس: 13)، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} (إبراهيم: 24
ومن عجائب الأمثال أنها مع إيجازها تعمل
عمل الإطناب، ولها روعة إذا برزت في أثناء الخطاب، والحفظ موكل بما راع من
اللفظ، وندر من المعنى، وأمثال العرب كثيرة، وإن وقعت عليها أشعارهم ومن
تلاهم من المخضرمين والمحدثين، ولم يضبطها حصر
وفي الأمثال الخامل النادر، والبعيد المغزى، والمعقد المعنى، والجافي اللفظ.. وإليك بعض الأمثال العربية
أكلت يوم أكل الثور الأسود
يضرب لرجل فقد ناصره، فلحقه الضيم من
عدوه، وهو من أمثال كليلة ودمنة، وتمثل به سيدنا علي "رضي الله عنه" وعنى
قتل عثمان "رضي الله عنه" ، وأصله فيما ذكر صاحب كليلة أن ثورين أسود
وأبيض كانا في بعض المروج، فكان الأسد إذا قصدهما تعاونا عليه فرداه، فخلا
يوما بالأبيض وقال له: إن خليتني فأكلت الثور الأسود خلا لك مرعاك، وأعطيك
عهدا ألا أطور بك- أي لا أقربك- فخلاه والثور الأسود فأكله، ثم عطف عليه
فافترسه فقال: إنما أكلت يوم أكل الثور الأسود.
رجع بِخُفَّيْ حنين
حنين إسكافي في الحيرة، ساومه أعرابي
بخفين فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، فلما ارتحل ألقى أحد خفيه في طريق
الأعرابي، ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما
أشبه هذا بخف حنين! لو كان معه الآخر أخذته، ومضى فلما انتهى إلى الآخر ندم
على تركه الأول، فلما مضى الأعرابي إلى الخف الأول وترك راحلته، عمد حنين
إلى راحلته وما عليها وذهب بها، وأقبل الأعرابي ليس معه غير الخفين فقال له
قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بخفي حنين، فصار مثلا
هو أصدق من قطاة
وذلك لأنها تقول: قطا قطا فاسمها من صوتها.. قال النابغة الذبياني
تَدعو القَطَا وَبهِ تدعو إذا انتسبت
يا صِدقَها حِينَ تدعوها فَتُنْتَسبُ
أسألُ من فَلْحس
وهو الذي يتحين طعام الناس، وهو الذي
تسميه العامية الطفيلي. قال ابن حبيب: هو رجل من شيبان، كان سيدًا عزيزًا
يسأل سهما في الجيش وهو في بيته فيعطى، فإذا أعطيه سأل لامرأته، فإذا أعطيه
سأل لبعيره، وكان له ابن يقال له: زاهر، فكان مثله فقيل له: العصا من
العصية
إذا سَمِعْت بسُرَى القيْن فإنّه مُصبِّح
يضرب مثلًا لرجل يعرف بالكذب حتى يرد
صدقه، وأصله أن القين، وهو الحداد إذا كسد عمله أشيع بارتحاله، وهو يريد
الإقامة، وإنما يذكر الرحيل ليستعمله أهل الماء، ثم إذا صدق لم يصدق، ولأن
من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن يعرف بالكذب لم يجز صدقه.. قال نهشل بن حري
وعهد الغانيات كعهد قين
ونت عنه الجعائل مستذاق
كبرق لاح يعجب من رآه
ولا يغني الحوائم من لماق
ونت عنه الجعائل: أي قصرت فلم تبلغه، والجعائل هاهنا أجور عمله، والمستذاق هو المجرب
إياك أعني واسمعي يا جارة
المثل لسيار بن مال الفزاري، قاله لأخت
حارثة بن لأم الطائي، وذلك أنه نزل بها، فنظر إلى بعض محاسنها فهويها،
واستحيا أن يخبرها بذلك، فجعل يشبب بامرأة غيرها، فلما طال ذلك وضاق ذرعًا
بما يجد وقف لها وقال
كانَتْ لَنا مِنْ غَطْفانَ جارَه
حَلاّلَةٌ ظَعّانَةٌ سَيّارَه
كَأَنَّها مِنْ هيئة وشاره
والحلي حلي التِّبْرِ وَالحِجارَه
مَدْفَعُ مَيْثاءَ إِلى قَرارَه
إيّاكِ أَعْني فَاسْمَعي يا جارَه
ومعنى شبب بها قال فيها الغزل والنسيب
أطرِّي فإنك ناعلة
يضرب مثلًا للقوي على الأمر، وأصله أن
رجلًا كانت له أمتان راعيتان إحداهما ناعلة والأخرى حافية، فقال للناعلة
أطرِّي أي خذي طرر الوادي فإنك ذات نعلين، ودعي سرارته لصاحبتك فإنها
حافية، وطرر الشيء: هو نواحيه وهو الغليظ من الأرض. قال أبوعبيدة: لم يكن
هناك نعل وإنما أراد بالنعلين غلظ جلد قدميها، ومن هذا الكلام أخذ المتنبي
قوله في كافور
تعجبني رجلاك في النعل إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
عند جهينة الخبر اليقين
قال الأصمعي: وأصله أنَّ جهينة هذا كان عنده علم رجل مقتول، وفيه يقول الشاعر
تسائل عن أبيها كل ركبٍ
وعند جفينة الخبر اليقين
قال: فسألوا جفينة فأخبرهم خبر القتيل
وأما هشام بن الكلبي فقال: إنّه جهينة.
وكان من حديثه أنَّ حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب خرج ومعه رجل من جهينة
يقال له: الأخنس، فنزلا منزلًا، فقام الجهني إلى الكلابي فقتله وأخذ ماله،
فكانت أخته صخرة بنت عمرو تبكيه في المواسم، فقال الأخنس الجهني فيها
كصخرة إذ تسائل في مراح
وفي جرمٍ وعلمها ظنون
تسأل عن حصيل كل راكب
وعند جهينة الخبر اليقـين
مكره أخوك لا بطل
ويقال : إن أصله كان بيهسا الذي يلقب
نعامة حين قتل إخوته طلب بثأرهم، وكان له خال يكنى أبا حشر، فقال له: اخرج
بنا إلى موضع كذا وكذا وكتمه ما يريد به، ثم مضى إلى الذين يطلبهم بالذحل-
والذحل هو الثأر- فهجم به عليهم فجأة ثم قال: إيه أبا حشر، فلما رأى أبو
حشر أنه قد نزلت به البلية جعل يذب عن نفسه ويقاتلهم، فقال الناس ما أشجعه!
أقدم على هؤلاء، فعندها قال أبوحشر «مكره أخوك لا بطل» أي ليس هذا
بالشجاعة مني
مالي ذنب إلا ذنب صحر
وأصله أن صحر هي امرأة لم يعرف الأصمعي من
قصتها غير هذا. وكان المفضل يقتص حديثها يقول: هي صحر بنت لقمان العادي،
وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم خرجا مغيرين فأصابا إبلًا كثيرة، فسبق لقيم
إلى منزله، فعمدت أخته صحر إلى جزور مما قدم به لقيم، فنحرتها وصنعت منها
طعاما يكون معدا لأبيها إذا قدم، وقد كان لقمان حسد ابنه لقيمًا لتبريزه
عليه، فلما قدم لقمان قدمت له صحر الطعام، وعلم أنه من غنيمة لقيم، فلطمها
لطمة قضت عليها، فصارت عقوبتها مثلًا لكل من يعاقب ولا ذنب له.. وفيه يقول
خفاف بن ندبة السلمي
وعباس يدب لي المنايا
وما أذنبت إلا ذنب صحر
سمِّنْ كلبَكَ يأكلْك
قال: كان لرجل من طسم كلب يسقيه اللبن،
ويطعمه اللحم، وكان يأمل فيه أن يصيد به، وأن يحرسه، فظل الكلب على ذلك
فجاع يومًا وفقد اللحم، فجاء إلى صاحبه فوثب عليه حتى قطعه وأكل من لحمه،
وإياه عنى طرفة بن العبد بقوله
ككلب طسم وقد تـربـيه
يعله بالحليب في الغلسِ
ظل علية يومًا يقـرقـره
إلاّ يلغ الدماء بنهس
الغلس ظلمة آخر الليل، والنهس القبض على اللحم ونتره
بلغ السيل الزبى
وهو أن يبلغ الأمر منتهاه، والزبية تحفر
للأسد فيصاد فيها، وهي ركية بعيدة القعر، إذا وقع فيها لم يستطع الخروج
منها لبعد قعرها، يحفرونها ثم يوضع عليها اللحم، وقد غموها بما لا يحمله
فإذا أتى اللحم انهدم غماء الزبية ووقع فيها
ذكرتني الطعن وكنت ناسيًا
يضرب للشيء ينساه الإنسان وهو يحتاج إليه،
قالوا: وأصله أن صخرا بن عمرو بن الشريد لقي أبا ثور ربيعة بن حوط الفقعسي
في غزوة غزاها مع بني فقعس، وصخر في بني سليم فانكشفت بنو فقعس، فقال صخر
لأبي ثور: ألق الرمح لا أم لك! قال: أو معي رمح ولا أدري! قال: ذكرتني
الطعن وكنت ناسيًا، وكر عليه فطعنه، وهزمت بنو سليم
ذكرني فوك حماري أهلي
يضرب مثلًا للرجل يبصر الشيء فيذكر به
حاجةً كان قد نسيها، وأصله أن رجلًا خرج يطلب حمارين لأهله أضلهما، فمر على
امرأة جميلة المنتقب، فقعد يحادثها، ونسي حماريه لشغل قلبه بها، ثم سفرت
فإذا أسنانها منكرة، فتذكر بها أسنان الحمار فانصرف عنها وقال: ذكرني فوك
حماري أهلي. ونحوه قول الآخر
سفرت فقلت لها: هج فتبرقعت
فذكرت حين تبرقعت ضبارا
عصا الجبان أطول
وذلك أن الجبان يرى أن طول العصا أرهب
لعدوه، وأبعد له من أذاه إذا قاومه، يضرب مثلًا لمن يهرب ويهدد، وليس عنده
نكير. ولما كان يوم اليمامة رأى خالد بن الوليد "رضي الله عنه" أهلها
خرجوا إلى المسلمين وقد جردوا سيوفهم قبل الدنو فقال لأصحابه: أبشروا فإن
إبراز السلاح قبل اللقاء فشل، فسمعه مجاعة بن مرارة الحنفي وكان موثقًا
عنده فقال: كلا أيها الأمير ولكنها الهنداوية، وهذه غداة باردة فخشوا
تحطيمها، فأبرزوها للشمس لتلين متونها، فلما تدانى القوم قالوا: نعتذر إليك
يا خالد. وذكروا مثل كلام مجاعة، ثم قاتلوا قتالًا شديدًا لم ير مثله
كأنما أُفرغ عليه ذَنوب
يضرب للرجل الذي ترميه بحجة تسكته،
والذنوب: الدّلو، ولا تسمى ذنوبًا إلا أن تكون ملأى، وربما عني به النصيب.
وفي القرآن {ذنوبًا مثل ذنوب أصحابهم} وقال الراجز
إنا إذا شاربنا شريب
لنا ذنوب وله ذنوب
وإن أبى كان له الطبيب
لبست له جلد النمر
معناه أظهرت له العداوة الشديدة، وجعلوا النمر مثلًا في ذلك؛ لأنه من أجرأ السباع وأشدها، وأقلها احتمالًا للضيم
يقولون تنمرت له، أي صرت له مثل النمر أوقع به ولا أحتمله.. قال عمرو بن معد يكرب
قوم إذا لبسوا الحد
يد تنمروا حلقًا وقدا
من استرعى الذئب ظلم
أي: من استرعى الذئب فقد وضع الأمانة في
غير موضعها، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقالوا الذئب: اسم رجل وهو ابن
أخ أكثم بن صيفي. قالوا: غزا أكثم فأسر الأقياس ونهيكا وأخذ أموالهم، ثم
بدا له، وأراد إطلاقهم.. فدعا بني أخيه وهم ثلاثة، الكلب والسبع والذئب،
فدفع الأقياس ونهيكا إلى الكلب، ووضع الأموال في يدي الذئب، وقال: إذا
أطلقتهم فادفع إليهم أموالهم، فانطلق الكلب إلى الذئب فأخبره ألا يطلقهم
وقبض الذئب الأموال، فبلغ ذلك أكثم فقال: نعم كلب في بؤس أهله، من استرعى
الذئب ظلم
نفس عصام سوَّدتْ عصامًا
هو عصام بن شهبر الجرمي، وكان من أشد
الناس بأسًا وأبينهم لسانًا، وأحزمهم رأيًا، وكان على جل أمر النعمان، ولم
يكن في بيت من قومه أدنى منه فقال له رجل: كيف نزلت هذه المنزلة من الملك
وأنت دنيء الأصل؟! فقال
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقداما
وجعلته ملكًا هماما
والناس يقولون لمن يفخر بنفسه: عصامي، ولمن يفتخر بآبائه عظامي
عن أبي هريرة "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه
يداك أوكتا وفوك نفخ
يقال ذلك لمن يوقع نفسه في مكروه. وأصله
أن رجلًا أراد أن يعبر نهرًا على سقاء، فلم ينفخها ولم يوكها على ما ينبغي،
فلما توسط النهر انحل وكاؤها، فصاح الغرق! فقيل له: يداك أوكتا وفوك نفخ..
أي إنك من قبل نفسك أتيت، والوكاء: هو الخيط الذي يشد به رأس السقاء
هذا وتبقى الأمثال نوعًا من العلم منفردًا
بنفسه، لا يقدر على التصرف فيه إلا من اجتهد في طلبه حتى أحكمه، وبالغ في
التماسه حتى أتقنه، ولما عرفت العرب أن الأمثال تتصرف في أكثر وجوه الكلام،
وتدخل في جل أساليب القول، أخرجوها في أقواها من الألفاظ؛ ليخف استعمالها،
ويسهل تداولها، فهي من أجل الكلام وأنبله، وأشرفه وأفضله، لقلة ألفاظها
وكثرة معانيها، وجسيم عائداتها
كافية الكبش- باحثة في اللغة