المقامة في الأدب العربي
عيد الدرويش – سوريا – الرقة - إجازة في الفلسفة وعلم النفس
ظفر الأدب العربي
بالكثير من الخصائص والسمات التي تفرد بها عن بقية الآداب العالمية، وبما احتواه
من تعدد أشكال التعبير وصيغ الكتابة، وهذا يدل على ثراء ذلك الأدب الذي يمتح من
معين اللغة العربية، بعد أن أصبحت لغة السماء والأرض، وقد استقطبت الكثير من
الكتّاب من غير الناطقين بها، وأبدعوا فيها أيما إبداع، وتفتقت قريحتهم البلاغية
والأدبية، وساعدتهم في النبوغ في كافة العلوم الأخرى، لنستدل على أن اللغة العربية
التي بنيت بشكل سليم ومكتنز وقوي، سُجل ذلك لحساب ذلك الإنتاج المعرفية لها بالقوة
نفسها، إن لم يكن يزيد على ذلك، والأمثلة والأدلة على تلك الجوانب كثيرة ومتعددة،
ولا نريد الاستطراد في تلك الجوانب، ولسنا بصدد ذلك، فالأدب يصوّر حركة وتفاعل
المجتمع بكل منمنماته وأساليب عيشه، فضلاً عما يساهم به الأدب في تطوُّر المجتمع
وتقدم الشعوب، فالكثير من الخصائص التي تميز بها هذا الأدب الثر، ونحن نتتبع أثر
المقامة في الأدب العربي، فنلاحظ أن هذا النوع،
الذي نشأ في أواخر العصر العباسي هو فن جديد، اسمه أدب المقامة، وفسح لها مجالاً رحباً، واستمال الكثير من الكتاب، لأن يدلوا بدولهم، فقد تعددت أشكاله وتنوعت، وفضلاً عما لاقت أذن صاغية، فكان قراؤها أكثر من كتابها، لما فيها من المتعة وجمال الصورة والفكاهة، ولا نستبعد أهمية البنية اللغوية فيها، التي أكسبتها جمالاً وروعة، فالمقامة تعبر عن تفرد في هذا الأسلوب الأدبي الرفيع، وأصبحت جنساً أدبياً من عائلة الأدب العربي بامتياز، ومن مؤسسي هذا الجنس الأدبي بديع الزمان الهمذاني، ونجد في مصادر أخرى قيل أنه أخذها عن أستاذه ابن فارس، وقد أسند رواية مقاماته إلى الحارث بن همام، وهو اسم خيالي، وترفع عن المسالك اللصوصية، وبطلها أبو زيد السروجي، كما أن المقالة لا تأخذ تسجيعاً واحداً في كل المقامة، ولكن تأخذ أنواعاً متعددة (إن الغرض من المقامة لم يكن جمال القصص، وإنما أريد بها قطعة أدبية فنية تجمع شوارد اللغة، ونوادر التركيب بأسلوب مسجوع: كما أن أصحاب المقامات جملة لم يعنوا بتصوير الحكايات وتحليل الأشخاص، ولم يكن همّ المنشئ للمقامات إلا تحسين اللفظ وتزيينه)( ) ومن الذين تناولوا هذا الفن (عدا ابن فارس، وبديع الزمان الهمذاني، ابن الاشتراكوني المتوفى سنة 968م، وسمّاها المقامات (السرقسطية) وهي خمسون مقامة أنشأها بقرطبة من بلاد الأندلس، ولزم في نثرها لزوم ما لا يلزم، وحدث فيها المنذر بن حمام عن السائب بن تمام، ومقامات الزمخشري المتوفي سنة 1143م، ثم مقامات أحمد بن الأعظم الرازي وهي أثنتا عشرة مقامة كتبها سنة 1232م، وجعل راويها القعقاع بن زنباع، والمقامات الزينية لزين الدين بن صقيل الجزري المتوفي سنة 1301م، وهي خمسون مقامة عارض فيها الحريري ونسبها إلى أبي نصر المصري وعزا راويها إلى القاسم بن جريال الدمشقي ثم مقامات السيوطي، وهي تكاد تكون رسائل وغيرهم، وكلهم أخفقوا في تقليد الحريري، ولم يستقيم ذلك إلا للشيخ ناصيف اليازجي في مقاماته)( ).
وتذكر كتب التراث أن عدد الكتاب الذين كتبوا في هذا الجنس بعضهم يفوق الألف كاتب وكان بعضهم من بين أعمدة الأدب وأساطينها مثل: الجزري والهمذاني والأسواني والحريري والزيني والسيوطي وابن الجوزي والزمخشري واليازجي....إلخ.
ويذكر ناصيف عبد الله اليازجي في جبل لبنان (إنني تطفلت على مقام أهل الأدب، من أيمة العرب بتلفيق أحاديث تقتصر من شبه مقاماتهم على اللقب، ونسبت وقائعها إلى ميمون بن خزام ورواياتها إلى سهل بن عباد، وكلاهما هيُّ بن بيٍّ مجهول النسب والبلاد، وقد تحريت أن أجمع فيها ما استطعت من الفوائد والقواعد والغرائب والشوارد والأمثال والحكم والقصص، التي يجري بها القلم، وتسعى لها القدم)( ) ويرى الكثير من الكتاب والأدباء أن المقامة لم تكن بعيدة كل البعد عن الأجناس الأدبية مثل الشعر والبلاغة والسجع، على الرغم أن القصة متضمنة من خلال سياق المقامة، فهي قصة بأسلوب آخر لأن مفرداتها وسياقها الفني يعبر عن سرد حكائي، ولكنه ذو محور واحد في القص، ومع هذا يقوم كاتب المقامة بعنصر التشويق والإثارة تارة، وعنصر الفكاهة تارة أخرى، فضلاً عن جانب اللطافة أحياناً، كما يقول مارون عبود: (إنما هي حديث أدبي بليغ، وهي أدنى إلى الحيلة منها إلى القصة، فليس فيها من متن القصة إلا ظاهرة فقط).
ويرى البعض من الكتّاب بأن فن المقامة هو نوع من القصة القصيرة، ويرى آخرون بأن المقامة ابنة القصة القصيرة، وتكون في لغة مكثفة التراكيب والمعاني، وفق إيقاعات لفظية متواترة، فالقصة تستعير في مفاصلها نوعاً من المقامة في الخطاب والسرد، ولكن قلّما نجد المقامة يكثر فيها السرد دون سجع وبلاغة وبديع وتورية وصيغ الظرافة والإمتاع للقارئ، كما أن المقامة تثبت ألوان عدة من علومها، فيختلط الحديث والفكاهة والإلمام الكامل باللغة والرصيد الفكري والفقهي والرياضة والفلك والطب وأخبار وأحوال البلدان وطبقات المجتمع العليا والدنيا.
كما تتجلى المقامة بجملة من العناصر الفنية في بنائها:
إن غنى اللغة العربية ومفرداتها يجعل المقامة تتنوع في طريقة السرد والروي بصور متباينة بين كاتب وآخر، فمنهم من يبدأ براو وشخصية يحمّلها الكاتب مجموعة من الخصال التي يريد إظهارها، وتتحدث بالنيابة عنهم، وعند البعض الآخر يبدأ بتوطئة بلاغية تنبئ بمسار المقامة كمدخل لأحداثها، وليس بالضرورة أن يبدأ بمتحدث أو راوِ، وبعضها الآخر يبدأ بذلك، كما تعرف المقامة بمفردات السجع والروي والسرد، ومن خلال الصورة البديعة للعرض، بما تحمله من معطيات للوصف، ولا تتقيد بكل مفردات القصة السردية، ولكنه تعنى بالجناس والطباق، كما يقول بديع الزمان الهمذاني "حدثنا عيسى بن هشام" وفي مقامات الجزري "روي عن القاسم بن جريال.... أو حكى القاسم بن جريال.." ولا نجد ذلك في المقامة الأسوانية حيث يبدأ بداية عادية بدون راو أو محدث، وكوصف لشخصية معينة كما نرى (إذا كنت قد ولدت لأبوين فقيرين...) يعطى اسم المقامة من حيث الزمان أو المكان فمثلاً المقامات الزينية أخذت أسماء الأمكنة (المقامة الأهوازية نسبة إلى بلاد الأهواز ــ كذلك الكوفية أو البصرية أو الدمشقية ــ المصرية ــ البغدادية ــ الرهاوية ــ الحموية ــ الجزيرية ــ البمينية ــ البحرينية ــ الطوسية) وليست مقتصرة على المقامات الزينية بالنسبة للأمكنة، فالبغدادية في المقامة الهمذانية، وكذلك المقامة القزوينية والمقامة البخارية والأهوازية والأصفهانية، وكذلك المقامات نسبت إلى أشخاص مثلاً عند بديع الزمان الهمذاني سميت المقامة الحمدانية، نسبة إلى بني حمدان وفي مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي المقامة العبسية نسبة إلى بني عبس، فضلاً عن تسميات متعددة للمكان أو شخص ظريف وتسمى بها، وربما تسمى المقامات أيضاً للكاتب بصفة أو كنية له مثل الهمذاني أو الزينية أو اللأسوانية...........
ــ إن طابع التناص يغلب على جميع أشكال القمامات، والاستشهاد بالكثير من الدلالات والمعاني والاقتباسات من الشعر أو قول مأثور وفي بعضها الآخر، تكون الاقتباسات من الحديث أو القرآن، ونرى ذلك واضحاً في مقامات الحريري (ثم قال: الحمد لله المبتدئ بالأفضال، المبتدع للنوال، المتقرب إليه بالسؤال، المؤمل لتحقيق الآمال، الذي شرع الزكاة في الأموال، وزجه عن نهر السؤال، وندب إلى مواساة المضطر، وأمر بإطعام القانع والمعتر، ووصف عباده المقتربين، في كتابه المبين، فقال وهو أصدق القائلين: والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم، أحمده على ما رزق من طعمة هنية، وأعوذ به من استماع دعوة بلا نية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً يجزي المتصدقين والمتصدقات، ويمحق الربا ويربي الصدقات)( ).
ــ للمقامة دلالة بلاغية تساهم في إيصال نوع من المعرفة من قبل الكاتب إلى القارئ، وتتضمن مجموعة من الرسائل البلاغية ذات مضامين دلالية، تسهم في تسليط الضوء على نوع من المعرفة أو الدهاء أو الحنكة أو السذاجة عند البعض الآخر، كما تصور الأشخاص بما تملي عليه شخصية الكاتب، لكي تجسد فيها أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويبرز من خلال تلك الصور لغة هي متمثلة في الواقع، فيرسم الأحداث والحياة العامة، وحياة الأفراد والسلطة وحالات الكرم والقضاة والشرطة والمأكولات، والأحاديث العامة للمجتمع ومن نوادر الظرفاء، وتعطي صورة شاملة عن المجتمع بما يتفق مع مسار الحديث الذي يعالجه الكاتب، ومن بين ثناياها نقرأ الكثير من الهواجس التي تعبر عن حالة الغنى الفكري والمعرفي كما تدل على المستوى الفكري الرفيع للكاتب، كما تتجاوز ذلك من خلال الظرافة، وهذه المقامات لا تستثني أحداً من المخاطبة، وفق منهج معرفي يمتلكه الكاتب وإحيائيته للمكان والزمان، وبعض الكائنات الأخرى والحيوانات، وأنسنتها أيضاً، فهي لا تقتصر على الإنسان، من خلال السرد في المقامة التي تندرج وفق سياق اللغة في الإبداع في المدلول العميق للكلمة.
ــ تأخذ المقامة مساقاً واحداً في مبناها العام، سواء في الطب، أو في الكيمياء أو في السياسة أو السخرية، كما تأخذ اللغة فيها دلالات ومضامين.
ــ الوصف والتصوير الدقيق في مفردات اللغة للشخصية، فالزمان والمكان، وهي من عناصر المقامة وسياقها وشكلها ونوعها، ففي الطبيعة مثلاً نجد السيوطي في مقاماته ذلك الرجل الورع والفقيه يتعامل مع اللغة بشاعرية مفرطة، وبعشق لها حيث يصف مناظر الطبيعة وفق المفردات التي استخدمها في المقامة "الروضة، والحسان، والأنهار، والأشجار، والأفنان، والرياحين، والبساتين....إلخ.
ــ المعيار الجمالي في المقامة، فتجتمع فيها الكثير من السمات في بنائها، فلكل مقامة شكل وأسلوب ولغة وصورة، ترصد حالات ومجتمعات ونوادر وغيرها، كل ذلك من خلال أسلوب اللغة، وهو عنصرها الأساسي، ومنبع ذلك الجمال، فكلما كانت المقامة تعتمد المنهجية، وتسير الأفكار آخذه بعضها في رقاب بعض، لتنسج صورة أخّاذة حتى أن تعيش في جميع مفردات الحياة العامة للمجتمع التي يصورها كاتب المقامة، ويطبعها بموسيقى الجناس والطباق والتشبيه والبديع والسجع في تواتر منسجم ومحكم، وربما يعاود على ذلك بنفس الوزن في موضع آخر، أو ينتقل إلى سجع آخر وهلم جرا، ليخلد بالقارئ بوحي موسيقى تخالجه، ولا يحتاج إلى شرح أو تفسير، وربما هي الأساس في استرخاء السمع إلى تلك النصوص بما يجود عليها من ترتيب وتباين أخّاذ.
ــ كما تتميز كتابة المقامة، بأن يمتلك قدرة عالية على الكتابة في هذا الجنس في مستوى التفكير والإلمام باللغة والبلاغة، وأن يكون الكاتب كذلك واسع الاطلاع في الثقافة والمعرفة، وأن يحسن التوفيق بينها في رسم الصورة، فالمفردات لدى الكاتب كالألوان لدى الفنان، فلا يستطيع الكاتب بدون تلك المفردات أن يرسم مقامه، ويحسن استخدام المفردات والمحسنات اللغوية وتوظيف ذلك في المكان الصحيح.
وفي بعض المقامات يمزج الكاتب الشعر مع الكتابة، على الرغم بأننا عندما نقرأ المقامة من خلال الجناس والطباق والوزن لأواخر الجمل، فهي بحد ذاتها شعر، وهذا يندرج على أغلب المقامات، مما يعطيها جمالية أخرى، فضلاً عن الصور البديعية التي يضمنها الكاتب في هذا الجنس الأدبي.
ونستعرض هنا تلك المقامات ودلالاتها:
ــ المقامة الزينية في المقامة الرابعة: الشينية (يقول فيها: روي القاسم بن جريال: قال: ألفت إبّان نهابي، وإبّان طراوة إهابي، واجتلاء حبابي، واختلاء أفانين لبابي، مداومة الأسفار ومناومة الأسفار.....)( ).
ــ في المقامة الخامسة: التوأمية (حكى القاسم بن جريال، قال: عكفت أيام مواظبة الكفاء، ومداعبة الأكفاء، ومعاندة العفاء، ومعاهدة الضعفاء، ومساومة الهيفاء، ومداومة النعمة الوحفاء، على نديم زافر أعياء السّخاء، نافر على ركام الطبع والطحاء.......)( ).
ــ وفي موضع آخر من تلك المقامات (يبدأ فيها بالراوي القاسم بن جريال، فالمقامة البزاعية: ويرويها: (حكى القاسم بن جريال، قال: أيقنت غِبَّ الجهالة، والنزول هذه الهالة، ومناجاة النحول، ومفاجأة النوب الحول...... وينشد شعراً:
فهم البدور إذا البدور تكوّرت
وهم الدّرورُ إذا الدُّرورُ ترنّقا
وهم البحور إذا البحور تكوّرت
وهم الحُبور إذا الحُبورُ تفرّقا
وهم الثغور إذا الثغور تهدمت
وهم السرور إذا السرور تمزّقا
وفي هذه المقامات يتكرر الشعر بين مفردات المقامات الزينية).
ويتكرر الشعر في المقامة في أكثر من موضع وهذه المقامة الأسوانية، لم يتحدث براو، وإنما يبدأ بمقدمة في عنوان المقامة: الأستاذ حندوس الذي يعبد الفلوس (وإذا كنت قد ولدت لأبوين فقيرين. عاشا بائسين...... ولم ترث عنهما غير الشجون..... وبعض الديون...... ولم يكن لك خال ولا عم....... فرهنت الساعة...... وبعت الولاعة...... وذقت معنى الجوع طيلة الأسبوع، وبعد ذلك اعتدل بك الحال، وسعى إليك المال....... فلا بدّ أن تصبح واحداً من اثنين....... كريماً إلى حد السرف، أو بخيلاً إلى حدق القرف.......) ــ ومن المقامات الزينية الأخرى كما في المقامة بعنوان: الحب عند الغجر بين الأنثى والذكر (كنا نجلس عند حلواني.. في شارع السد الجواني، إلى مائدة بجوار الباب، وحولها كل الأحباب، فهبط علينا دون إنذار، أديب يدعى مختار، ثقيل الظل في الشمس والظل، إذا جلس إلينا ساعة، تمنينا قيام الساعة، لأن صمته تأديب وكلامه تعذيب، وكان مختار قد انقطع عن الكتابة، مدعياً القرف والكآبة، ولكن الحقيقة أنه تزوج امرأة متعبة، قتلت فيها الموهبة، فلمّا اكتشف الجريمة، أصبحت حالته أليمة، فانقلبت شخصيته وتعقّد، وعاند وتشدد، فهجره أهله فتهور دخله، فأصبح زري الطلعة... مغبر الصلعة).
ومن المقامات الهمذانية نجد المقامة الناجمية حيث يبدأ بمحدثه (حدثنا عيسى بن هشام، قال: بتُّ ذات ليلة في كتيبة فضل من رفقائي، فتذاكرنا الفصاحة، وما ودعنا الحديث حتى قرع علينا الباب، فقلنا: من المنتاب. فقال: وفد الليل وبريده. وفلّ الجوع وطريده، وغريب نضوه طليح، وعيشه تبريح، ومن دون فرضية مهامه فيح، وضيف ظله خفيف، وضالته رغيف....... ويستطرد إلى قوله........ قال: جمالٌ موقرة، وبغال مثقلة، وحقائب مقفلة، وأنشأ يقول:
مولاي أي رذيلة لم يأبها
خلف وأيُّ فضيلة لم يأتها
ما يسمع العافين إلا هاكها
لفظاً وليس يُجاب إلا هاتها
إن المكارم أسفرت عن أوجهٍ
بيض وكان الخال في وجناتها
بأبي شمائله التي تجلو العلا
ويداً ترى البركات في حركاتها
وهذا أيضاً ما يطرق الشعر في متن المقامات الهمذانية).
وقد شاعت شهرة المقامة البغدادية لبديع الزمان الهمذاني (حدثنا عيسى بن هشام، قال: اشتهيت الأزاد، وأنا في بغداد، وليس معي عقد على نقد، فخرجت أنتهز محاله حتى أحلني الكره، فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حمارهُ، ويطرف بالعقد إزاره، فقلت: ظفرنا والله بصيد، وحياك الله أبا زيد، من أين أقبلت، وأين نزلت، ومتى وافيت، وهلم إلى البيت، فقال السوادي: لست بأبا زيد، ولكنني أبا عبيد.........).
ــ كما يتناول الشيخ ناصيف اليازجي في مقاماته، "مجمع البحرين"، بمحدثه سهل بن عباد أو حكى سهل بن عباد، وكذلك قد كنى هذه المقامات منها بأسماء الأمكنة، كالمقامة الشامية (أبر سهل بن عباد، فقال: دخلت يوماً على صاحب لي بالشام، أعوده من داء البرسام، فجلست بإزائه، وأنا أستخبره عن دائه، وبينما هو يبث شكواه، ويتأوه لبلواه، إذ قيل: جاء الطبيب، فقلت: قطعت جهيزة قول كل خطيب.....).
وفي موضع آخر في مجمع البحرين، المقامة الخزرجية يستهل في روايتها ويزاوج المقامة بالشعر فيقول: (قال سهل بن عباد: دخلت بلاد العرب، في التماس بعض الأدب، فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج، فلما صرت في بهرة النادي، أخذ بمجامع فؤادي، فجلست بين القوم ساعة، وأنا أحدق إلى الجماعة، وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تصوّر في ذلك المقام، وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينة، أو شاعر مزينة، فقال الشيخ: كل فتاة بأبيها معجبة، فكن سائلاً أو مسؤولاً لا لنرى ما في القداح من الأنصبة، قال: إنما يسأل العالم، فما هي أسماء المطاعم؟ قال: لبيك وسعديك: وأنشد كهزار الأيك:
للنّفساء الخرُس والعقيقه
للطفل عند عارف الحقيقه
كذلك الإعذارُ للختان
وذو الحذاق حافظ القرآن
للخطيبة المِلاك والوليمه
للعرس والميت له الوضيمه
ومن الأسماء: المقامات البغدادية والأزهرية وللأشخاص (التغلبية) والهزلية تأخذ نوعاً من الهزل.
ومحدثه هو (الحارث بن همام) المقامة البصرية (حكى الحارث بن همام، قال: أشعِرتُ في بعض الأيام هما برَّح بيّ استِعَارُهُ، ولاح عليّ شِعَارُهُ، وكنت سمعتُ أن غشيان مجالس الذكر، بسرد غواشي الفكر، فلم أرَ لإطفاء ما بين من الجَمْرَةِ، إلا قصد الجامع بالبصرة، وكان إذ ذاك ما هول المساند،.....).
ومما تقدّم يتبين لنا الشكل الفني للمقامة واستعراض مفرداتها، وما تحمله من عناصر فنية تؤدي الغرض منها في إيصال فكرة أو فكاهة أو من منمنمات المجتمع وما يحدث فيه من طرافة، فضلاً عما تؤديه المقامة من تسليط الضوء على جانب اجتماعي أو سلوك بعض الأفراد سواء في الحياة العامة أو ما يجري في مفاصل السلاطين والولاة عبر العصور وفي بعض الأحيان يكون مبناها عما يجول في ذاكرة وخيال الكتاب، مدونين ذلك من خلال ذلك الوصف الفني لتلك الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحالات الدهاء والحنكة لدى البعض منهم، ويستخدم الكاتب في ذلك كل أنواع البديع والجناس والطباق وصنوف البلاغة، ولهذا طبع الأدب العربي بسمات فريدة، بتعدد الصيغ الفنية، لما يريد الكاتب من إيصاله للقراء، ضمن سياق أدبي، مترع في الروعة والجمال من خلال الصور الرائعة من مفردات اللغة العربية، وهي المعين الأساسي لثراء ذلك الأدب، وما المقامة إلا مفردة في ذلك الإرث الأدبي الغني بمفرداته، والمقامة التي لا تقل أهمية عن القصة والشعر والرواية من حيث الشكل والمضمون ولكن قد يختلفان في المبنى الفني والإبداعي لهذا الكاتب أو ذاك.
الذي نشأ في أواخر العصر العباسي هو فن جديد، اسمه أدب المقامة، وفسح لها مجالاً رحباً، واستمال الكثير من الكتاب، لأن يدلوا بدولهم، فقد تعددت أشكاله وتنوعت، وفضلاً عما لاقت أذن صاغية، فكان قراؤها أكثر من كتابها، لما فيها من المتعة وجمال الصورة والفكاهة، ولا نستبعد أهمية البنية اللغوية فيها، التي أكسبتها جمالاً وروعة، فالمقامة تعبر عن تفرد في هذا الأسلوب الأدبي الرفيع، وأصبحت جنساً أدبياً من عائلة الأدب العربي بامتياز، ومن مؤسسي هذا الجنس الأدبي بديع الزمان الهمذاني، ونجد في مصادر أخرى قيل أنه أخذها عن أستاذه ابن فارس، وقد أسند رواية مقاماته إلى الحارث بن همام، وهو اسم خيالي، وترفع عن المسالك اللصوصية، وبطلها أبو زيد السروجي، كما أن المقالة لا تأخذ تسجيعاً واحداً في كل المقامة، ولكن تأخذ أنواعاً متعددة (إن الغرض من المقامة لم يكن جمال القصص، وإنما أريد بها قطعة أدبية فنية تجمع شوارد اللغة، ونوادر التركيب بأسلوب مسجوع: كما أن أصحاب المقامات جملة لم يعنوا بتصوير الحكايات وتحليل الأشخاص، ولم يكن همّ المنشئ للمقامات إلا تحسين اللفظ وتزيينه)( ) ومن الذين تناولوا هذا الفن (عدا ابن فارس، وبديع الزمان الهمذاني، ابن الاشتراكوني المتوفى سنة 968م، وسمّاها المقامات (السرقسطية) وهي خمسون مقامة أنشأها بقرطبة من بلاد الأندلس، ولزم في نثرها لزوم ما لا يلزم، وحدث فيها المنذر بن حمام عن السائب بن تمام، ومقامات الزمخشري المتوفي سنة 1143م، ثم مقامات أحمد بن الأعظم الرازي وهي أثنتا عشرة مقامة كتبها سنة 1232م، وجعل راويها القعقاع بن زنباع، والمقامات الزينية لزين الدين بن صقيل الجزري المتوفي سنة 1301م، وهي خمسون مقامة عارض فيها الحريري ونسبها إلى أبي نصر المصري وعزا راويها إلى القاسم بن جريال الدمشقي ثم مقامات السيوطي، وهي تكاد تكون رسائل وغيرهم، وكلهم أخفقوا في تقليد الحريري، ولم يستقيم ذلك إلا للشيخ ناصيف اليازجي في مقاماته)( ).
وتذكر كتب التراث أن عدد الكتاب الذين كتبوا في هذا الجنس بعضهم يفوق الألف كاتب وكان بعضهم من بين أعمدة الأدب وأساطينها مثل: الجزري والهمذاني والأسواني والحريري والزيني والسيوطي وابن الجوزي والزمخشري واليازجي....إلخ.
ويذكر ناصيف عبد الله اليازجي في جبل لبنان (إنني تطفلت على مقام أهل الأدب، من أيمة العرب بتلفيق أحاديث تقتصر من شبه مقاماتهم على اللقب، ونسبت وقائعها إلى ميمون بن خزام ورواياتها إلى سهل بن عباد، وكلاهما هيُّ بن بيٍّ مجهول النسب والبلاد، وقد تحريت أن أجمع فيها ما استطعت من الفوائد والقواعد والغرائب والشوارد والأمثال والحكم والقصص، التي يجري بها القلم، وتسعى لها القدم)( ) ويرى الكثير من الكتاب والأدباء أن المقامة لم تكن بعيدة كل البعد عن الأجناس الأدبية مثل الشعر والبلاغة والسجع، على الرغم أن القصة متضمنة من خلال سياق المقامة، فهي قصة بأسلوب آخر لأن مفرداتها وسياقها الفني يعبر عن سرد حكائي، ولكنه ذو محور واحد في القص، ومع هذا يقوم كاتب المقامة بعنصر التشويق والإثارة تارة، وعنصر الفكاهة تارة أخرى، فضلاً عن جانب اللطافة أحياناً، كما يقول مارون عبود: (إنما هي حديث أدبي بليغ، وهي أدنى إلى الحيلة منها إلى القصة، فليس فيها من متن القصة إلا ظاهرة فقط).
ويرى البعض من الكتّاب بأن فن المقامة هو نوع من القصة القصيرة، ويرى آخرون بأن المقامة ابنة القصة القصيرة، وتكون في لغة مكثفة التراكيب والمعاني، وفق إيقاعات لفظية متواترة، فالقصة تستعير في مفاصلها نوعاً من المقامة في الخطاب والسرد، ولكن قلّما نجد المقامة يكثر فيها السرد دون سجع وبلاغة وبديع وتورية وصيغ الظرافة والإمتاع للقارئ، كما أن المقامة تثبت ألوان عدة من علومها، فيختلط الحديث والفكاهة والإلمام الكامل باللغة والرصيد الفكري والفقهي والرياضة والفلك والطب وأخبار وأحوال البلدان وطبقات المجتمع العليا والدنيا.
كما تتجلى المقامة بجملة من العناصر الفنية في بنائها:
إن غنى اللغة العربية ومفرداتها يجعل المقامة تتنوع في طريقة السرد والروي بصور متباينة بين كاتب وآخر، فمنهم من يبدأ براو وشخصية يحمّلها الكاتب مجموعة من الخصال التي يريد إظهارها، وتتحدث بالنيابة عنهم، وعند البعض الآخر يبدأ بتوطئة بلاغية تنبئ بمسار المقامة كمدخل لأحداثها، وليس بالضرورة أن يبدأ بمتحدث أو راوِ، وبعضها الآخر يبدأ بذلك، كما تعرف المقامة بمفردات السجع والروي والسرد، ومن خلال الصورة البديعة للعرض، بما تحمله من معطيات للوصف، ولا تتقيد بكل مفردات القصة السردية، ولكنه تعنى بالجناس والطباق، كما يقول بديع الزمان الهمذاني "حدثنا عيسى بن هشام" وفي مقامات الجزري "روي عن القاسم بن جريال.... أو حكى القاسم بن جريال.." ولا نجد ذلك في المقامة الأسوانية حيث يبدأ بداية عادية بدون راو أو محدث، وكوصف لشخصية معينة كما نرى (إذا كنت قد ولدت لأبوين فقيرين...) يعطى اسم المقامة من حيث الزمان أو المكان فمثلاً المقامات الزينية أخذت أسماء الأمكنة (المقامة الأهوازية نسبة إلى بلاد الأهواز ــ كذلك الكوفية أو البصرية أو الدمشقية ــ المصرية ــ البغدادية ــ الرهاوية ــ الحموية ــ الجزيرية ــ البمينية ــ البحرينية ــ الطوسية) وليست مقتصرة على المقامات الزينية بالنسبة للأمكنة، فالبغدادية في المقامة الهمذانية، وكذلك المقامة القزوينية والمقامة البخارية والأهوازية والأصفهانية، وكذلك المقامات نسبت إلى أشخاص مثلاً عند بديع الزمان الهمذاني سميت المقامة الحمدانية، نسبة إلى بني حمدان وفي مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي المقامة العبسية نسبة إلى بني عبس، فضلاً عن تسميات متعددة للمكان أو شخص ظريف وتسمى بها، وربما تسمى المقامات أيضاً للكاتب بصفة أو كنية له مثل الهمذاني أو الزينية أو اللأسوانية...........
ــ إن طابع التناص يغلب على جميع أشكال القمامات، والاستشهاد بالكثير من الدلالات والمعاني والاقتباسات من الشعر أو قول مأثور وفي بعضها الآخر، تكون الاقتباسات من الحديث أو القرآن، ونرى ذلك واضحاً في مقامات الحريري (ثم قال: الحمد لله المبتدئ بالأفضال، المبتدع للنوال، المتقرب إليه بالسؤال، المؤمل لتحقيق الآمال، الذي شرع الزكاة في الأموال، وزجه عن نهر السؤال، وندب إلى مواساة المضطر، وأمر بإطعام القانع والمعتر، ووصف عباده المقتربين، في كتابه المبين، فقال وهو أصدق القائلين: والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم، أحمده على ما رزق من طعمة هنية، وأعوذ به من استماع دعوة بلا نية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً يجزي المتصدقين والمتصدقات، ويمحق الربا ويربي الصدقات)( ).
ــ للمقامة دلالة بلاغية تساهم في إيصال نوع من المعرفة من قبل الكاتب إلى القارئ، وتتضمن مجموعة من الرسائل البلاغية ذات مضامين دلالية، تسهم في تسليط الضوء على نوع من المعرفة أو الدهاء أو الحنكة أو السذاجة عند البعض الآخر، كما تصور الأشخاص بما تملي عليه شخصية الكاتب، لكي تجسد فيها أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويبرز من خلال تلك الصور لغة هي متمثلة في الواقع، فيرسم الأحداث والحياة العامة، وحياة الأفراد والسلطة وحالات الكرم والقضاة والشرطة والمأكولات، والأحاديث العامة للمجتمع ومن نوادر الظرفاء، وتعطي صورة شاملة عن المجتمع بما يتفق مع مسار الحديث الذي يعالجه الكاتب، ومن بين ثناياها نقرأ الكثير من الهواجس التي تعبر عن حالة الغنى الفكري والمعرفي كما تدل على المستوى الفكري الرفيع للكاتب، كما تتجاوز ذلك من خلال الظرافة، وهذه المقامات لا تستثني أحداً من المخاطبة، وفق منهج معرفي يمتلكه الكاتب وإحيائيته للمكان والزمان، وبعض الكائنات الأخرى والحيوانات، وأنسنتها أيضاً، فهي لا تقتصر على الإنسان، من خلال السرد في المقامة التي تندرج وفق سياق اللغة في الإبداع في المدلول العميق للكلمة.
ــ تأخذ المقامة مساقاً واحداً في مبناها العام، سواء في الطب، أو في الكيمياء أو في السياسة أو السخرية، كما تأخذ اللغة فيها دلالات ومضامين.
ــ الوصف والتصوير الدقيق في مفردات اللغة للشخصية، فالزمان والمكان، وهي من عناصر المقامة وسياقها وشكلها ونوعها، ففي الطبيعة مثلاً نجد السيوطي في مقاماته ذلك الرجل الورع والفقيه يتعامل مع اللغة بشاعرية مفرطة، وبعشق لها حيث يصف مناظر الطبيعة وفق المفردات التي استخدمها في المقامة "الروضة، والحسان، والأنهار، والأشجار، والأفنان، والرياحين، والبساتين....إلخ.
ــ المعيار الجمالي في المقامة، فتجتمع فيها الكثير من السمات في بنائها، فلكل مقامة شكل وأسلوب ولغة وصورة، ترصد حالات ومجتمعات ونوادر وغيرها، كل ذلك من خلال أسلوب اللغة، وهو عنصرها الأساسي، ومنبع ذلك الجمال، فكلما كانت المقامة تعتمد المنهجية، وتسير الأفكار آخذه بعضها في رقاب بعض، لتنسج صورة أخّاذة حتى أن تعيش في جميع مفردات الحياة العامة للمجتمع التي يصورها كاتب المقامة، ويطبعها بموسيقى الجناس والطباق والتشبيه والبديع والسجع في تواتر منسجم ومحكم، وربما يعاود على ذلك بنفس الوزن في موضع آخر، أو ينتقل إلى سجع آخر وهلم جرا، ليخلد بالقارئ بوحي موسيقى تخالجه، ولا يحتاج إلى شرح أو تفسير، وربما هي الأساس في استرخاء السمع إلى تلك النصوص بما يجود عليها من ترتيب وتباين أخّاذ.
ــ كما تتميز كتابة المقامة، بأن يمتلك قدرة عالية على الكتابة في هذا الجنس في مستوى التفكير والإلمام باللغة والبلاغة، وأن يكون الكاتب كذلك واسع الاطلاع في الثقافة والمعرفة، وأن يحسن التوفيق بينها في رسم الصورة، فالمفردات لدى الكاتب كالألوان لدى الفنان، فلا يستطيع الكاتب بدون تلك المفردات أن يرسم مقامه، ويحسن استخدام المفردات والمحسنات اللغوية وتوظيف ذلك في المكان الصحيح.
وفي بعض المقامات يمزج الكاتب الشعر مع الكتابة، على الرغم بأننا عندما نقرأ المقامة من خلال الجناس والطباق والوزن لأواخر الجمل، فهي بحد ذاتها شعر، وهذا يندرج على أغلب المقامات، مما يعطيها جمالية أخرى، فضلاً عن الصور البديعية التي يضمنها الكاتب في هذا الجنس الأدبي.
ونستعرض هنا تلك المقامات ودلالاتها:
ــ المقامة الزينية في المقامة الرابعة: الشينية (يقول فيها: روي القاسم بن جريال: قال: ألفت إبّان نهابي، وإبّان طراوة إهابي، واجتلاء حبابي، واختلاء أفانين لبابي، مداومة الأسفار ومناومة الأسفار.....)( ).
ــ في المقامة الخامسة: التوأمية (حكى القاسم بن جريال، قال: عكفت أيام مواظبة الكفاء، ومداعبة الأكفاء، ومعاندة العفاء، ومعاهدة الضعفاء، ومساومة الهيفاء، ومداومة النعمة الوحفاء، على نديم زافر أعياء السّخاء، نافر على ركام الطبع والطحاء.......)( ).
ــ وفي موضع آخر من تلك المقامات (يبدأ فيها بالراوي القاسم بن جريال، فالمقامة البزاعية: ويرويها: (حكى القاسم بن جريال، قال: أيقنت غِبَّ الجهالة، والنزول هذه الهالة، ومناجاة النحول، ومفاجأة النوب الحول...... وينشد شعراً:
فهم البدور إذا البدور تكوّرت
وهم الدّرورُ إذا الدُّرورُ ترنّقا
وهم البحور إذا البحور تكوّرت
وهم الحُبور إذا الحُبورُ تفرّقا
وهم الثغور إذا الثغور تهدمت
وهم السرور إذا السرور تمزّقا
وفي هذه المقامات يتكرر الشعر بين مفردات المقامات الزينية).
ويتكرر الشعر في المقامة في أكثر من موضع وهذه المقامة الأسوانية، لم يتحدث براو، وإنما يبدأ بمقدمة في عنوان المقامة: الأستاذ حندوس الذي يعبد الفلوس (وإذا كنت قد ولدت لأبوين فقيرين. عاشا بائسين...... ولم ترث عنهما غير الشجون..... وبعض الديون...... ولم يكن لك خال ولا عم....... فرهنت الساعة...... وبعت الولاعة...... وذقت معنى الجوع طيلة الأسبوع، وبعد ذلك اعتدل بك الحال، وسعى إليك المال....... فلا بدّ أن تصبح واحداً من اثنين....... كريماً إلى حد السرف، أو بخيلاً إلى حدق القرف.......) ــ ومن المقامات الزينية الأخرى كما في المقامة بعنوان: الحب عند الغجر بين الأنثى والذكر (كنا نجلس عند حلواني.. في شارع السد الجواني، إلى مائدة بجوار الباب، وحولها كل الأحباب، فهبط علينا دون إنذار، أديب يدعى مختار، ثقيل الظل في الشمس والظل، إذا جلس إلينا ساعة، تمنينا قيام الساعة، لأن صمته تأديب وكلامه تعذيب، وكان مختار قد انقطع عن الكتابة، مدعياً القرف والكآبة، ولكن الحقيقة أنه تزوج امرأة متعبة، قتلت فيها الموهبة، فلمّا اكتشف الجريمة، أصبحت حالته أليمة، فانقلبت شخصيته وتعقّد، وعاند وتشدد، فهجره أهله فتهور دخله، فأصبح زري الطلعة... مغبر الصلعة).
ومن المقامات الهمذانية نجد المقامة الناجمية حيث يبدأ بمحدثه (حدثنا عيسى بن هشام، قال: بتُّ ذات ليلة في كتيبة فضل من رفقائي، فتذاكرنا الفصاحة، وما ودعنا الحديث حتى قرع علينا الباب، فقلنا: من المنتاب. فقال: وفد الليل وبريده. وفلّ الجوع وطريده، وغريب نضوه طليح، وعيشه تبريح، ومن دون فرضية مهامه فيح، وضيف ظله خفيف، وضالته رغيف....... ويستطرد إلى قوله........ قال: جمالٌ موقرة، وبغال مثقلة، وحقائب مقفلة، وأنشأ يقول:
مولاي أي رذيلة لم يأبها
خلف وأيُّ فضيلة لم يأتها
ما يسمع العافين إلا هاكها
لفظاً وليس يُجاب إلا هاتها
إن المكارم أسفرت عن أوجهٍ
بيض وكان الخال في وجناتها
بأبي شمائله التي تجلو العلا
ويداً ترى البركات في حركاتها
وهذا أيضاً ما يطرق الشعر في متن المقامات الهمذانية).
وقد شاعت شهرة المقامة البغدادية لبديع الزمان الهمذاني (حدثنا عيسى بن هشام، قال: اشتهيت الأزاد، وأنا في بغداد، وليس معي عقد على نقد، فخرجت أنتهز محاله حتى أحلني الكره، فإذا أنا بسوادي يسوق بالجهد حمارهُ، ويطرف بالعقد إزاره، فقلت: ظفرنا والله بصيد، وحياك الله أبا زيد، من أين أقبلت، وأين نزلت، ومتى وافيت، وهلم إلى البيت، فقال السوادي: لست بأبا زيد، ولكنني أبا عبيد.........).
ــ كما يتناول الشيخ ناصيف اليازجي في مقاماته، "مجمع البحرين"، بمحدثه سهل بن عباد أو حكى سهل بن عباد، وكذلك قد كنى هذه المقامات منها بأسماء الأمكنة، كالمقامة الشامية (أبر سهل بن عباد، فقال: دخلت يوماً على صاحب لي بالشام، أعوده من داء البرسام، فجلست بإزائه، وأنا أستخبره عن دائه، وبينما هو يبث شكواه، ويتأوه لبلواه، إذ قيل: جاء الطبيب، فقلت: قطعت جهيزة قول كل خطيب.....).
وفي موضع آخر في مجمع البحرين، المقامة الخزرجية يستهل في روايتها ويزاوج المقامة بالشعر فيقول: (قال سهل بن عباد: دخلت بلاد العرب، في التماس بعض الأدب، فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج، فلما صرت في بهرة النادي، أخذ بمجامع فؤادي، فجلست بين القوم ساعة، وأنا أحدق إلى الجماعة، وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تصوّر في ذلك المقام، وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينة، أو شاعر مزينة، فقال الشيخ: كل فتاة بأبيها معجبة، فكن سائلاً أو مسؤولاً لا لنرى ما في القداح من الأنصبة، قال: إنما يسأل العالم، فما هي أسماء المطاعم؟ قال: لبيك وسعديك: وأنشد كهزار الأيك:
للنّفساء الخرُس والعقيقه
للطفل عند عارف الحقيقه
كذلك الإعذارُ للختان
وذو الحذاق حافظ القرآن
للخطيبة المِلاك والوليمه
للعرس والميت له الوضيمه
ومن الأسماء: المقامات البغدادية والأزهرية وللأشخاص (التغلبية) والهزلية تأخذ نوعاً من الهزل.
ومحدثه هو (الحارث بن همام) المقامة البصرية (حكى الحارث بن همام، قال: أشعِرتُ في بعض الأيام هما برَّح بيّ استِعَارُهُ، ولاح عليّ شِعَارُهُ، وكنت سمعتُ أن غشيان مجالس الذكر، بسرد غواشي الفكر، فلم أرَ لإطفاء ما بين من الجَمْرَةِ، إلا قصد الجامع بالبصرة، وكان إذ ذاك ما هول المساند،.....).
ومما تقدّم يتبين لنا الشكل الفني للمقامة واستعراض مفرداتها، وما تحمله من عناصر فنية تؤدي الغرض منها في إيصال فكرة أو فكاهة أو من منمنمات المجتمع وما يحدث فيه من طرافة، فضلاً عما تؤديه المقامة من تسليط الضوء على جانب اجتماعي أو سلوك بعض الأفراد سواء في الحياة العامة أو ما يجري في مفاصل السلاطين والولاة عبر العصور وفي بعض الأحيان يكون مبناها عما يجول في ذاكرة وخيال الكتاب، مدونين ذلك من خلال ذلك الوصف الفني لتلك الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحالات الدهاء والحنكة لدى البعض منهم، ويستخدم الكاتب في ذلك كل أنواع البديع والجناس والطباق وصنوف البلاغة، ولهذا طبع الأدب العربي بسمات فريدة، بتعدد الصيغ الفنية، لما يريد الكاتب من إيصاله للقراء، ضمن سياق أدبي، مترع في الروعة والجمال من خلال الصور الرائعة من مفردات اللغة العربية، وهي المعين الأساسي لثراء ذلك الأدب، وما المقامة إلا مفردة في ذلك الإرث الأدبي الغني بمفرداته، والمقامة التي لا تقل أهمية عن القصة والشعر والرواية من حيث الشكل والمضمون ولكن قد يختلفان في المبنى الفني والإبداعي لهذا الكاتب أو ذاك.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire